قوة التخيل في صناعة الواقع
وليد فتيحي
الأشخاص الذين يستطيعون تغذية عقولهم دائما بالصور والأفكار الإيجابية يحققون من النجاحات والإنجازات ما لا يستطيع أن يحققه من يستسلم لواقع سلبي ويقضي وقته يفكر في السلبيات
قد يستغرب البعض عندما يقول العلم لهم إن العقل لا يميز بين الحقيقة والخيال.. نعم إن العقل (أو الدماغ) كأداة لاستقبال المعلومات وتحويلها إلى صورة ذهنية لا يفرق بين ما يُستقبل ويُرى بالعين، وبين ما يُستقبل ويُرى بالمخيلة
(ما يتخيله الإنسان وعيناه مغلقتان).
إن علماء النفس الإكلينيكي والتجريبي أثبتوا بما لا يقبل الشك أن الجهاز العصبي والدماغ لا يستطيعان التفرقة بين الحقيقة والخيال، وهذا بناء على مئات التجارب المختلفة، وسأسوق لكم من التجارب ما تمت إعادته عشرات المرات، وفي كل مرة تكون النتائج متشابهة. في إحدى هذه الدراسات أتوا بلاعبي سلة وأعطوا كل واحد عدداً معيناً من الرميات الحرة، وتم التحديد وبدقة نسبة التسديد الناجح لكل لاعب، وتمت إعادة التمرين مرات عديدة للتأكد من دقة هذه النسبة لكل لاعب، ثم وبطريق عشوائية تم تقسيم اللاعبين إلى ثلاث مجموعات..
المجموعة الأولى: جعلوها تتدرب كل يوم لعدة ساعات على الرميات الحرة. المجموعة الثانية: لم تتدرب أبدا. المجموعة الثالثة: طُلب منهم الجلوس على المنصة، وأن يتخيلوا أنهم يتدربون على الرميات الحرة بخيالهم لعدة ساعات في اليوم، وهي نفس الفترة الزمنية للمجموعة الأولى.
وبعد الانتهاء من التمارين في الثلاث مجموعات، وجدوا أن المجموعة الأولى التي تدربت فعلا، تحسن أداؤها بشكل ملحوظ، أما المجموعة الثانية التي لم تتدرب على الإطلاق فوجدوا أنه ليس لديها أي تحسن.
والآن سؤالنا: كيف تظن أداء المجموعة الثالثة التي كانت تتدرب بخيالها فقط، هل تعتقد أن أداءها تحسن ولو قليلا؟ إن الإجابة قد تذهل كل من لا يعرفها.. لقد وجُد في هذه التجربة وفي كل التجارب المشابهة أن مستوى المجموعة الثالثة تحسن تقريبا بنفس نسبة المجموعة التي تدربت فعلا. كيف حدث ذلك؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال نسوق لكم تجربة أخرى..
في أولمبياد عام 1980، قام الفريق الروسي باستخدام طريقة التدريب هذه، فقسم الفريق عشوائيا إلى أربع مجموعات..
المجموعة الأولى: 100% تدريب تقليدي جسدي. المجموعة الثانية: 75% تدريب تقليدي جسدي، و25% تدريب عقلي أو تخيلي. المجموعة الثالثة: 50% تدريب تقليدي جسدي، و50% تدريب عقلي أو تخيلي. المجموعة الرابعة: 25% تدريب تقليدي جسدي، و75% تدريب عقلي أو تخيلي. والنتيجة كانت أن المجموعة الرابعة حققت أكبر قدر من أوسمة الفوز.
مثال آخر مشهور، هو قصة الطيار الحربي جورج هول الذي وقع أسير حرب في فيتنام ووضع في صندوق مظلم لمدة سبعة أعوام، وفي كل يوم كان الطيار يتخيل نفسه يلعب الجولف ليمضي الوقت وكي لا يفقد عقله في هذا السجن المظلم، وبعد إنقاذه من الأسر بأسبوع واحد، شارك جورج هول في مسابقة عالمية للجولف وفاز بمرتبة متقدمة جدا. ما الذي حدث في كل هذه التجارب والقصص؟
إن الدماغ البشري لم يميز بين التدريب الحقيقي والتدريب العقلي، والفائدة التي كان من المفترض أن يجنيها المتدرب العقلي بالطريقة التخيلية من خلال الممارسة الفعلية الجسدية، عوضها العقل ببناء الثقة الناتجة عن عدم إضاعة رمية واحدة في التدريب العقلي التخيلي، بينما في التدريب الحقيقي هناك رميات تضيع لأن هذا هو الشيء الطبيعي، ولهذا كان يقول أنشتاين إن القدرة على التخيل أهم بكثير من المعرفة أو المعلومة.
وبما أن الدماغ لا يميز بين ما هو حقيقي مرئي وبين ما تغذيه به من أفكار تخيلية، لهذا نجد أن الأشخاص الذين يستطيعون تغذية عقولهم دائما بالصور والأفكار الإيجابية يحققون من النجاحات والإنجازات ما لا يستطيع أن يحققه من يستسلم لواقع سلبي ويقضي معظم وقته وهو يفكر في السلبيات (العقل السلبي)، وهو الذي كثيرا ما يكون نتاج تربية قائمة على التفكير بطريقة سلبية ووضع نظارة سوداء، وهو ما يسمى بالبرمجة السلبية. وفي كتابه ميزة السعادة Happiness Advantage يبين لنا الكاتب شون آكور أن المفهوم التقليدي: أنك إن عملت وثابرت واجتهدت ستنجز وتنجح، وهذا الإنجاز والنجاح سيجعلك سعيدا، مفهوم غير دقيق، حيث إن الأبحاث والدراسات الحديثة في علم النفس الإيجابي وجدت أن هذه المعادلة في الحقيقة مقلوبة، وهذه نتيجة دراسات في هارفارد ودراسات مساندة حول العالم بأكثر من 200 دراسة علمية على أكثر من 270 ألف شخص.
نعم هذه المعادلة مقلوبة، فالسعادة هي التي تغذي النجاح وليس النجاح يؤدي إلى السعادة..
بمعنى آخر عندما نكون سعداء إيجابيين في الحياة بشكل عام، ونبحث عن كل شيء إيجابي حولنا، فإن العقل البشري سيستقبل هذه الصور الإيجابية المتفائلة، مما يؤدي لإفراز كمية أعلى من هورمون الدوبامين الذي يقوم بوظيفتين، الأولى أنه يضفي السعادة على الإنسان، وبالتالي النشاط والحيوية والطاقة والتطلع لمزيد من العمل، والثانية أن الدوبامين كذلك يجعل الإنسان أكثر ذكاء وأكثر قدرة على رؤية الفرص المتاحة واقتناصها، وبالتالي إنجازات أكبر، مما يؤدي لسعادة أكبر وبدوره إفراز أكبر للدوبامين. وبذلك فإن هذا الشخص الإيجابي ينتقل من إنجاز لإنجاز، ومن نجاح إلى نجاح، ويكون دائما ممتلئا بالنشاط والحيوية والتفاؤل للحياة، وهذا عكس الشخص الذي لا يرى في الوجود حوله إلا السلبيات (العقل السلبي) المبرمج على السلبيات.
وهذا يفسر لنا كيف أن إنسانا في ظروف خارجية صعبة يستطيع أن يتجاوزها بتغذية عقله بالصور الإيجابية، كمن يقضي في السجن أعواما وهو لا يرى منه إلا نعيم الجنة كأنه يعيش فيها، وآخر يسكن القصور وهو بصحة وعافية وليس من مكدر لعيشه وينتهي الأمر به إلى الاكتئاب، بل إلى الانتحار، لأن عقله لا يرى من العالم إلا ما يغذيه له صاحبه، بغض النظر عن الواقع الذي يعيش فيه.
وهنا نقف لنفهم قول الإمام ابن تيمية عندما قال: "ماذا يصنع بي أعدائي؟ جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهما معي.. سجني خلوة ونفيي سياحة وقتلي شهادة". وبهذا نلمس قدرته على تحويل كل ظرف صعب وسلبي ليستقبله العقل بصورة إيجابية. وقد حثنا ديننا على صناعة الإيجابية، فمن حديث "أنا عند ظن عبدي بي" نتعلم أنه لا بد للإنسان أن يظن خيراً، وأن يفكر بطريقة إيجابية، وكما في أمر الرؤية الصالحة الإيجابية التي طُلب منا أن نقصها حتى نكون مؤمنين بها، والرؤية السيئة التي يجب أن ننساها ولا نذكرها وأن نستعيذ بالله منها. إن أعظم الإنجازات التي حققها أفراد كانت تحت ظروف قاسية جعلت هذه الإنجازات تبدو مستحيلة في بداياتها، لكن كل هذه الإنجازات العظيمة بدأت هناك بعيدا عن العيون في داخل عقل الإنسان الذي يراها كأنها حقيقة ويغذي عقله بها كل يوم ليستقبلها العقل والدماغ كأنها واقع مُسلّم به، فيؤمن بها القلب إيمانا راسخا لا يتزعزع بأنها ستتحقق، وبدون هذا الإيمان والعقل الإيحابي تبدو بحق كل الإنجازات العظيمة التي تحققت على أرض الواقع شبه مستحيلة. يقولون: راقب أفكارك لأنها ستصبح أفعالا، وراقب أفعالك لأنها ستصبح عادات، وراقب عاداتك لأنها ستصبح طباعا، وراقب طباعك لأنها ستحدد مصيرك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.