السبت، 25 مايو 2013

يحكى أن أحدهم ضاقت به سبل العيش!!








يحكى أن أحدهم ضاقتبه سبل العيش ، فسئم الحياة وقرر أن يهيم على وجهه في بلاد الله الواسعة ، فتركبيته وأهله وغادر المنطقة متجهاً نحو الشرق ، وسار طويلاً حتى وصل بعد جهدٍ كبيرومشقةٍ عظيمة إلى منطقة شرقيّ الأردن ، وقادته الخطى إلى بيت أحد الأجواد الذي رحّببه وأكرم وفادته ، وبعد انقضاء أيام الضيافة سأله عن غايته ، فأخبره بها ، فقال لهالمضيف : ما رأيك أن تعمل عندي على أن أعطيك ما يرضيك ، ولما كان صاحبنا بحاجة إلىمكان يأوي إليـه ، وإلى
 عملٍ يعمل فيه اتفق معه على ذلك .

وعمل الرجل عند مضيفه أحياناً يرعى الإبل وأحياناً أخرى يعمل فيمضافته يعدّ القهوة ويقدمها للضيوف ، ودام على ذلك الحال عدة سنوات كان الشيخيكافئه خلالها ببعض الإبل والماشية .ومضت عدة سنوات اشتاق فيها الرجل لبيتهوعائلته وتاقت نفسُه إلى بلاده وإلى رؤية أهله وأبنائه ، فأخبر صاحب البيت عن نيتهفي العودة إلى بلده ، فعزّ عليه فراقه لصدقه وأمانته ، وأعطاه الكثير من المواشيوبعض الإبل وودّعه وتمنى له أن يصل إلى أهله وهو بخير وسلامة .وسار الرجل ماشاء الله له أن يسير ، وبعد أن قطع مسافة طويلة في الصحراء القاحلة رأى شيخاًجالساً على قارعة الطريق ، ليس عنده شيء سوى خيمة منصوبة بجانب الطريق ، وعندما وصلإليه حيّاه وسأله ماذا يعمل لوحده في هذا المكان الخالي وتحت حرّ الشمس وهجيرالصحراء ،
 فقال له : أنا أعمل في التجارة .

فعجب الرجل وقال له : وما هي تجارتك يا هذا ، وأين بضاعتك ؟ فقال له الشيخ : أنا أبيع نصائح .فقال الرجل : تبيع نصائح ، وبكم النصيحة ؟!فقال الشيخ : كلّ نصيحة ببعير .فأطرق الرجل مفكراً في النصيحة وفي ثمنها الباهظالذي عمل طويلاً من أجل الحصول عليه ، ولكنه في النهاية قرر أن يشتري نصيحة مهماكلفه الأمر فقال له :
 هات لي نصيحة ، وسأعطيك بعيراً ؟ فقال له الشيخ :" إذاطلع سهيل(1) لا تأمَن للسيل " .ففكر الرجل في هذه النصيحة وقال : ما لي ولسهيلفي هذه الصحراء الموحشة ، وماذا تنفعني هذه النصيحة في هذا الوقت بالذات . وعندماوجد أنها لا تنفعه قال للشيخ : هات لي نصيحة أخرى وسأعطيك بعيراً آخر . فقال لهالشيخ : "
 أبو عيون بُرْق(2) وأسنان فُرْق(3) لا تأمن له " . 
وتأمل صاحبنا هذه النصيحة أيضاً وأدارها في فكره ولم يجد بها أيفائدة ، فقال والله لأغامرنّ حتى النهاية حتى لو ضاع تعبي كلّه في دقائق معدودة ،فقال للشيخ هات النصيحة الثالثة وسأعطيك بعيراً آخر .فقال له : " نام علىالنَّدَم ولا تنام على الدم " .ولم تكن النصيحة الثالثة بأفضل منسابقتيها ، فترك الرجل ذلك الشيخ وساق ما معه من مواشٍ وسار في طريقه ، وظل يسيرلعدة أيام نسي خلالها النصائح من كثرة التعب وشدّة الحر ، وفي أحد الأيام أدركهالمساء فوصل إلى قوم من العربان قد نصبوا خيامهم ومضاربهم في قاع وادٍ كبير ،فتعشّى عند أحدهم وباتَ عنده ،
وفي الليل وبينما كان ساهراً يتأملالنجوم طلع نجم سُهيل ، وعندما رآه الرجل تذكّر النصيحة التي قالها له الشيخ ففرّمذعوراً ، وأيقظَ صاحب البيت وأخبره بقصة النصيحة ، وطلب منه أن يخبر قومه حتىيخرجوا من قاع ذلك الوادي ، ولكن المضيف سخر منه ومن قلّة عقله ولم يكترث له ولميأبه لكلامه ، فقال والله لقد اشتريت النصيحة ببعير ولن أنام في قاع هذا الوادي ،فقرر أن يبيت على مكان مرتفع ، فأخذ جاعِدَهُ(4) ونام على مكان مرتفع بجانب الوادي .وفي أواخر الليل جاء السيل يهدر كالرعد فأخذ البيوت والعربان ، ولميُبقِ سوى بعض المواشي . وساق الرجل ما تبقى من المواشي وأضافها إلى مواشيه ،وأنعق(5) لها فتبعته وسار في طريقه عدة أيام أخر حتى وصل في أحد الأيام إلى بيت فيالصحراء ، فرحب به صاحب البيت وكان رجلاً نحيفاً خفيف الحركة ، وأخذ يزيد فيالترحيب به والتذبذب إليه حتى أوجس منه خيفة ، فنظر إليه وإذا به " ذو عيون بُرْقوأسنان فُرْق " فقال : آه هذا الذي أوصاني عنه الشيخ ، إن به نفس المواصفات لا ينقصمنها شيء .
وفي الليل تظاهر الرجل بأنه يريد أن يبيتخارج البيت قريباً من مواشيه وأغنامـه ، وأخذ فراشه وجَرَّه في ناحية ، ولكنه وضعحجارة تحت اللحاف ، وانتحى مكاناً غير بعيد يراقب منه حركات مضيفه ، وبعد أن أيقنالمضيف أن ضيفه قد نام ،خاصة بعد أن لم يرَ حراكاً له ، أخذ يقترب منه على رؤوسأصابعه حتى وصله ولما لم يسمع منه أية حركة تأكد له أنه نائم بالفعل ، فعاد وأخذسيفه وتقدم منه ببطء ثم هوى عليه بسيفه بضربه شديدة ، ولكن الضيف كان يقف وراءهفقال له : لقد اشتريت والله النصيحة ببعير ثم ضربه بسيفه فقتلـه ، وساق ماشيته وغابفي أعماق الصحراء .
وبعد مسيرة عدة أيام وصل فيساعات الليل إلى منطقة أهله ، فوجد مضارب قومه على حالها ، فترك ماشيته خارج الحيّ، وسار ناحية بيته ورفع الرواق(6) ودخل البيت فوجد زوجته نائمة وبجانبها شاب طويلالشعر ، فاغتاظ لذلك ووضع يده على حسامه وأراد أن يهوى به على رؤوس الأثنين ، وفجأةتذكر النصيحة الثالثة التي تقول " نام على الندم ولا تنام على الدم " ،
فبردت أعصابه وهدأ قليلاً فتركهم على حالهم ، وخرج من البيت وعاد إلىأغنامه ونام عندها حتى الصباح ، وبعد شروق الشمس ساق أغنامه واقترب من البيت فعرفهالناس ورحبوا به ، واستقبله أهل بيته وقالوا : والله من زمان يا رجل ، لقد تركتنامنذ فترة طويلة ، انظر كيف كبر خلالها ابنك حتى أصبح رجلاً ، ونظر الرجل إلى ابنهوإذا به ذلك الشاب الذي كان ينام بالأمس بجانب زوجته فحمد الله على سلامتهم ،و
شكر ربه أن هداه إلى عدم قتلهم وقال بينه وبين نفسه والله إن كلنصيحة أحسن من بعير ، وهكذا فإن النصيحة لا تقدّر بثمن إذا فهمناها وعملنا بها فيالوقت المناسب . ����

________________________________________

(1) - 
سُهَيل : نجمٌ يطلع في أواخر القيظ .
(2) - 
هو الذي في عينيه بريق يدلّ علىالخيانة والغدر .
(3) - 
هو الذي بين ثنيتيه الأماميتين فراغ ظاهر .
(4) - 
الجاعد : هو جلد الخروف يجفف وينظف بالملح حتى يصبح طرياً ، ويعمل من فرائه بطانةللمعاطف ، ويُلبس أحياناً في الصحراء كما هو ، ويستعمل كفِراشٍ صغير يجلس عليه .
(5) - 
أنْعَقَ : سار أمام الماشية ودعاها فتبعته .
(6) - 
الرّواق : الساترالغربي من الخيمة .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.